الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان، أي لمع البصر من شدة شخوصه، ومضارعه يبرق بضم الراء.وإسناده إلى البصر حقيقة.ومآل معنى القراءتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: 97]، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير.والتعريف في {البصر} للجنس المرادِ به الاستغراق، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يُعرضون عليه من طرائققِ منازلهم.وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماسا مستمرا بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيِّرا، وهو ما دل عليه قوله: {وجُمع الشمس والقمر} فهذا خسوف ليس هو خسوفه المعتاد عندما تحُولُ الأرضُ بين القمر وبين مُسامتته الشمس.ومعنى جمْع الشمس والقمر: التصاقُ القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي.و{إذا برق البصر} ظرف متعلق بـ {يقول الإنسان}، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف لأنه المقصود من سياق مجاوبة قوله: {يسأل أيّان يوم القيامة} [القيامة: 6].وطُوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم {أين المفر} فكأنه قيل: حلّ يومُ القيامة وحضرت أهوالُه يقول الإنسان يومئذٍ ثم تأكّد بقوله: {إلى ربك يومئذٍ المستقر}.و{يومئذٍ} ظرف متعلق بـ {يقول} أيضا، أي يوم إذْ يبرق البصر ويخسف القمر ويُجمع الشمس والقمر، فتنوين (إذ) تنوين عِوض عن الجملة المحذوفة التي دلت عليها الجملة التي أضيف إليها (إذ).وذُكر {يومئذٍ} مع أن قوله: {إذا برق البصر} إلخ مُغن عنه للاهتمام بذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزئون فيسألون عن وقته، وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد.و{الإنسان}: هو المتحدّث عنه من قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3]، أي يقول الإنسان الكافر يومئذٍ: أي المفر.و{المفر}: بفتح الميم وفتح الفاء مصدر، والاستفهام مستعمل في التمني، أي ليت لي فرارا في مكان نجاة، ولكنه لا يستطيعه.و{أين} ظرف مكان.و{كلا} ردع وإبطال لما تضمنه {أين المفر} من الطمع في أن يجد للفرار سبيلا.و{الوزر}: المكان الذي يُلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون.فيجوز أن يكون {كلاّ لا وزر} كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى جوابا لمقالة الإنسان، أي لا وزر لك، فينبغي الوقفُ على {المفر}.ويجوز أن يكون من تمام مقالة الإنسان، أي يقول: أين المفر؟ ويجيب نفسه بإبطال طعمه فيقول: {كلاّ لا وزر} أي لا وزر لي، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلاّ النار كما ورد في الحديث، فيحسن أن يُوصل {أين المفر} بجملة {كلا لا وزر}.وأما قوله: {إلى ربك يومئذٍ المستقرّ} فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا بقرينة قوله: {يومئذٍ}، فهو اعتراض وإدْماج للتذكير بمُلك ذلك اليوم.وفي إضافة (رب) إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه ناصره يومئذٍ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته.و{المستقرّ}: مصدر ميمي من استقرّ، إذا قرّ في المكان ولم ينتقل، والسين والتاء للمبالغة في الوصف.وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر.والمعنى: لا ملجأ يومئذٍ للإِنسان إلاّ منتهيا إلى ربك، وهذا كقوله تعالى: {وإلى الله المصير} [آل عمران: 28].وجملة {يُنبّأ الإنسان يومئذٍ بما قدّم وأخّر} مستأنفة استئنافا بيانيا أثارهُ قوله: {إلى ربك يومئذٍ المستقر}، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم يُنبأون بما قدموا وما أخروا.وينبغي أن يكون المراد بـ {الإنسان} الكافر جريا على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذٍ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء} الآية [آل عمران: 30].واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد، فإن في القرآن فنونا من التذكير لا تلزم طريقة واحدة.وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة.وتنبئةُ الإنسان بما قدّم وأخرّ كناية عن مجازاته على ما فعله: إن خيرا فخيرٌ وإن سُوءا فسوءٌ، إذ يقال له: هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلته ويلقى جزاءها، فكان الإِنباء من لوازم الجزاء قال تعالى: {قل بلى وربي لتُبْعثُنّ ثم لتُنبّؤنّ بما عمِلتم} [التغابن: 7] ويحصل في ذلك الإِنباء تقريع وفضح لحاله.والمراد بـ {ما قدم}: ما فعله وب {ما أخرّ}: ما تركه مما أُمر بفعله أو نهي عن فعله في الحالين فخالف ما كُلف به ومما علّمه النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء: «فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت».{بلِ الإنسان على نفسه بصِيرة (14) ولوْ ألْقى معاذِيرهُ (15)}إضراب انتقالي، وهو للترقي من مضمون {يُنبّأُ الإنسان يومئذٍ بما قدم وأخّر} [القيامة: 13] إلى الإِخبار بأن الكافر يعلم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال: {يا ليتني لم أوت كتابِيهْ ولم أدر ما حِسابيهْ} [الحاقة: 25، 26]، {ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا} [الكهف: 49].وقال تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} [الإسراء: 14].ونظم قوله: {بل الإنسان على نفسه بصِيرة} صالح لإِفادة معنيين:أولهما أن يكون {بصِيرة} بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون {بصِيرة} خبرا عن {الإنسان}.و{على نفسه} متعلقا بـ {بصِيرة}، أي الإنسان بصيرٌ بنفسه.وعُدّي بحرف {على} لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}.وهاء {بصِيرة} تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسّابة، أي الإنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذٍ.والمعنى الثاني: أن يكون {بصِيرة} مبتدأ ثانيا، والمراد به قرين الإنسان من الحفظة وعلى نفسه خبر المبتدأ الثاني مقدما عليه، ومجموعُ الجملة خبرا عن {الإنسان}، و{بصِيرة} حينئذٍ يحتمل أن يكون بمعنى بصير، أي مبصر والهاء للمبالغة، كما تقدم في المعنى الأول، وتكون تعدية {بصِيرة} بـ {على} لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول.ويحتمل أن تكون {بصِيرة} صفة لموصوف محذوف، تقديرة: حجة بصِيرة، وتكون {بصِيرة} مجازا في كونها بينة كقوله تعالى: {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ ربّ السماوات والأرض بصائر} [الإسراء: 102] ومنه قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} [الإسراء: 59] والتأنيثُ لتأنيث الموصوف.وقد جرت هذه الجملة مجرى المثل لإِيجازها ووفرة معانيها.وجملة {ولو ألقى معاذيره} في موضع الحال من المبتدأ وهو الإنسان، وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها.{لو} هذه وصْلِيّةٌ كما تقدم عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهبا ولو افتدى به} في آل عمران (91).والمعنى: هو بصِيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره.والإِلقاء: مراد به الإِخبار الصريح على وجه الاستعارة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فألْقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} في سورة النحل (86).والمعاذير: اسم جمع معذرة، وليس جمعا لأن معذرة حقه أن يُجمع على معاذر، ومثل المعاذير قولهم: المناكير، اسم جمع مُنْكر.وعن الضحاك: أن معاذير هُنا جمع مِعْذار بكسر الميم وهو السِتر بلغة اليمن يكون الإِلقاء مستعملا في المعنى الحقيقي، أي الإِرخاء، وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذبا بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه.والمعنى: أن الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها ويحاول أن يعتذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره.و{معاذيره}: جمع معرف بالإِضافة يدل على العموم.فمن هذه المعاذير قولهم: {رب ارجعون لعلي أعْملُ صالحا فيما تركتُ} [المؤمنون: 99، 100] ومنها قولهم: {ما جاءنا من بشير} [المائدة: 19] وقولهم: {هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38] ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة. اهـ.
|